فصل: تفسير الآيات (101- 102):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (101- 102):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [101- 102].
{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}.
التبديل: رفع الشيء مع وضع غيره مكانه، فتبديل الآية: رفعها بآية أخرى. والأكثرون: على أن المعنى نسخ آية من القرآن لفظاً أو حكماً بآية أخرى غيرها؛ لحكمة باهرة أشير إليها بقوله: {وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} من ناسخ قضت الحكمة أن يتبدل المنسوخ الأول به. وذهب قوم إلى أن المعنى تبديل آية من آيات الأنبياء المتقدمين، كآية موسى وعيسى وغيرهما من الآيات الكونية الآفاقية، بآية أخرى نفسية علمية، وهي كون المنزل هدى ورحمة وبشارة يدركها العقل إذا تنبه لها وجرى على نظامه الفطري. وذلك لاستعداد الإنسان وقتئذ؛ لأن يخاطب عقله ويستصرخ فمه ولبه. فلم يؤت من قبل الخوارق الكونية ويدهش بها كما كان لمن سلف. فبدلت تلك بآية هو كتاب العلم والهدى من نَبِيٍ أُمِّيِّ لم يقرأ ولم يكتب. وكون الكتاب بيِّن الصدق قاطع البرهان ناصع البيان بالنسبة لمن أوتي ورزق الفهم. وهذا التأويل الثاني يرجحه على الأول، أن السورة مكية، وليس في المكي منسوخ بالمعنى الذي يريدونه. وللبحث تفصيل في موضع آخر. وقد أشرنا إلى ذلك في آيتين من سورة البقرة في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا} إلخ [البقرة: 23]، وقوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106]، والمقصود أنه تعالى، لما رحم العالمين وجعل القرآن مكان ما تقدم، نسبوا الموحى إليه به إلى الافتراء، رداً للحق، وعناداً للهدى، وتولياً للشيطان، وتعبداً لوسوسته، وما ذاك إلا لجهلهم المتناهي، كما قال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} واعتراض قوله: {وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} لتوبيخ الكفرة والتنبيه على فساد رأيهم.
ثم أمره تعالى بأن يصدع بالحق في شأنه بقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ} أي: القرآن المدلول عليه بالآية: {رُوحُ الْقُدُسِ} يعني جبريل عليه السلام. أضيف إلى القدس وهو الطهر، كما يقال: حاتم الجود، وزيد الخير، وخبر السوء، ورجل صدق. والمراد: الروح المقدس، وحاتم الجود، وزيد الخيِّر، والخبر السيئ، والرجل الصادق. وإنما أضافوا الموصوف إلى مصدر الصفة للمبالغة في كثرة ملابسته له واختصاصه به. والمقدس: المطهر من الأدناس البشرية. وإضافة الرب إلى ضميره صلوات الله عليه في قوله تعالى: {مِن رَّبِّكَ}؛ للدلالة على تحقيق إفاضة آثار الربوبية. وقوله: {بِالْحَقِّ} أي: متلبساً بالحق الثابت الموافق للحكمة التي اقتضاها دور عصره. وقوله تعالى: {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ} أي: على الحق ونبذ وساوس الشياطين. وفي قوله تعالى: {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} تعريض بحصول أضداد هذه الصفات لغيرهم.

.تفسير الآية رقم (103):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [103].
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ}
يخبر تعالى عن المشركين في قولهم غير ما نقل عنهم قبل من المقالة الشنعاء، وكذبهم وبهتهم أن الرسول إنما يعلمه هذا الذي يتلوه من القرآن، بشر. يعنون رجلاً أعجمياً كان بين أظهرهم يقرأ في الكتب المتقدمة. ربما يتحدث معه النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً. وإنما لم يصرح، باسمه للإيذان بأن مدار خطئهم ليس بنسبته صلوات الله عليه إلى التعلم من شخص معين بل من البشر، كائناً من كان. ثم أشار تعالى وضوح بطلان بهتهم، بأن لسان الرجل الذي ينسبون إليه التعليم أعجمي غير مبين. وهذا القرآن الكريم لسان عربي مبين، ذو بيان وفصاحة. ومن أين للأعجمي أن يذوق بلاغة هذا التنزيل، وما حواه من العلوم، فضلاً أن ينطق به، فضلاً أن يكون معلماً له!. وقوله تعالى:

.تفسير الآيات (104- 105):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [104- 105].
{إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} تهديد لهم على كفرهم بالقرآن، بعد ما أماط شبهتهم ورد طعنهم فيه.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ} رد لقولهم: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} وقلب للأمر عليهم، ببيان أنهم هم المفترون لا هو. يعني: إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن، لأنه لا يخاف عقاباً يردعه عنه. وقوله تعالى: {وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} إشارة إلى الذين لا يؤمنون، ويدخل فيهم قريش دخولاً أولياً. أي: الكاذبون في الحقيقة ونفس الأمر. أو الكاملون فيه؛ لأنه لا كذب أعظم من تكذيب آياته تعالى، والطعن فيها بأمثال هاتيك الأباطيل. ولا يخفى ما في الحصر، بعد القصر، من العناية بمقامه صلوات الله عليه. وقد كان أصدق الناس وأبرهم وأكملهم علماً وعملاً وإيماناً وإيقاناً، معروفاً بالصدق في قومه، لا يشك في ذلك أحد منهم بحيث لا يُدْعى بينهم إلا بالأمين محمد. ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن تلك المسائل التي سألها، من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان فيما قال له: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا. فقال هرقل: ما كان ليدع الكذب على الناس، ويذهب فيكذب على الله تعالى.
تنبيه:
في هذه الآية دلالة قوية على أن الكذب من أكبر الكبائر وأفحش الفواحش. والدليل عليه: أن كلمة: {إِنَّمَا} للحصر. والمعنى: أن الكذب والفرية لا يقدم عليهما إلا من كان غير مؤمن بآيات الله، وإلا من كان كافراً. وهذا تهديد في النهاية.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: هل يكذب المؤمن؟ قال: لا. ثم قرأ هذه الآية. أفاده الرازي. وقوله تعالى:

.تفسير الآيات (106- 109):

القول في تأويل قوله تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إِيْمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيْمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ} [106- 109].
{مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إِيْمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيْمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ}.
لما بيَّن تعالى فضل من آمن وصبر على أذى المشركين، في المحاماة عن الدين، تأثره ببيان ما للردة وإيثار الضلال على الهدى، من الوعد الشديد، بهذه الآيات. واستثنى المكره المطمئن القلب بالإيمان بالله ورسوله، فإنه إذا وافق المشركين بلفظ، لإيلام قوي وإيذاء شديد وتهديد بقتل، فلا جناح عليه. إنما الجناح على من شرح بالكفر صدراً، أي: طاب به نفساً واعتقده، استحباباً للحياة الدنيا الفانية، أي: إيثاراً لها على الآخرة الباقية، فذاك الذي له من الوعيد ما بينته الآيات الكريمة، من غضب الله عليهم أولاً، وعذابه العظيم لهم، وهو عذاب النار ثانياً. وعدم هدايتهم باختيارهم الكفر ثالثاً. ورابعاً بالطبع على قلوبهم بقساوتها وكدورتها. فلم ينفتح لهم طريق الفهم، وعلى سمعهم وأبصارهم بسد طريق المعنى المراد من مسموعاتهم وطريق الاعتبار من مبصراتهم إلى القلب. فلم يؤثر فيهم شيء من أسباب الهداية من طريق الباطن من فيض العلم وإشراق النور. ولا من طريق الظاهر بطريق التعليم والتعلم والاعتبار من آثار الصنع. وخامساً بكونهم هم الغافلين بالحقيقة، لعدم انتباههم بوجه من الوجوه. وامتناع تيقظهم من نوم الجهل بسبب من الأسباب. وجليٌّ، أن كل نقمة من هذه الخمس، على انفرادها، من أعظم الحواجز عن الفوز بالخيرات والسعادات. فكيف بها كلها!.
قال الرازي: ومعلوم أنه إنما أدخل الإنسان الدنيا ليكون كالتاجر الذي يشتري بطاعاته سعادات الآخرة. فإذا حصلت هذه الموانع عظم خسرانه. فلهذا قال: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ} أي: الذين ضاعت دنياهم التي استنفدوا في تحصيلها وسعهم، وأتلفوا في طلبها أعمارهم، وليسوا من الآخرة في شيء إلا في وبال التحسرات.
تنبيهات:
الأول: {من} في قوله تعالى: {مَن كَفَرَ} موصول مبتدأ خبره: {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} وقوله: {إِلَّا مَن أَكرِهَ} استثناء مقدم من حكم الغضب. وقوله: {وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} رجوع إلى صدر الآية وحكمها، بأسلوب مبين لمن كفر، موضح له. بمثابة عطف البيان أو عطف التفسير. وهذا الوجه من الإعراب لم أره لأحد، ولا يظهر غيره لمن ذاق حلاوة أسلوب القرآن.
الثاني: استدل بالآية على أن المكره غير مكلف. وأن الإكراه يبيح التلفظ بكلمة الكفر، بشرط طمأنينة القلب على الإيمان. واستدل العلماء بالآية على نفي طلاق المكره وعتاقه، وكل قول أو فعل صدر منه، إلا ما استثنى. أفاده السيوطي في الإكليل.
الثالث: روي عن ابن عباس: أنها نزلت في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون حتى يكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم فوافقهم مكرهاً. ثم جاء معتذراً. قال ابن جرير: أخذ المشركون عماراً فعذبوه، حتى قاربهم في بعض ما أرادوا. فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: «كيف تجد قلبك؟» قال: مطمئناً بالإيمان. قال صلى الله عليه وسلم: «إن عادوا فَعُدْ».
وقال ابن إسحاق: إن المشركين عَدَوْا على من أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه. فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين. فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش. وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر. يفتنونهم عن دينهم. فمنهم من يفتتن من شدة البلاء الذي يصيبه. ومنهم من يصلب لهم ويعصمه الله منهم. وكان بلال رضي الله عنه عبداً لبعض بني جُمح، يخرجه أمية بن خلف، إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره. ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى. فيقول وهو في ذلك البلاء: أحدٌ، أحدٌ، حتى اشتراه أبو بكر وأعتقه.
وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه، رضي الله عنهم، إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة، فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: «صبراً آل ياسر، موعدكم الجنة» فأما أمه فقتلوها وهي تأبى إلا الإسلام.
قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم. والله! إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه، حتى ما يقدر على أن يستوي جالساً من شدة الضرب الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة. حتى يقولوا له: اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم. حتى إن الجُعَل ليمر بهم فيقولون له: هذا الجُعل إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، افتداء منهم، مما يبلغون من جَهدْه.
وقد ذكر ابن هشام في السيرة في بحث عدوان المشركين على المستضعفين ممن أسلم بالأذى والفتنة غرائب في هذا الباب، فانظره.
قال ابن كثير: ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي، إبقاء لمهجته. ويجوز له أن يأبى، كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم، وهو يفعلون به الأفاعيل، وهو يقول: أحدٌ، أحدٌ. ويقول: والله! لو أعلم كلمة أغيظ لكم منها لقلتها. رضي الله عنه وأرضاه. وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري، لما قال له مسيلمة الكذاب: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ فيقول: نعم. فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع. فلم يزل يقطعه إرباً إرباً، وهو ثابت على ذلك.
وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذافة السهمي، أحد الصحابة، أنه أسرته الروم، فجاءوا به إلى ملكهم. فقال له: تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي. فقال له: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب، على أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين، ما فعلت. فقال: إذاً أقتلك. فقال: أنت وذاك. فأمر به فصلب. وأمر الرماة فرموه قريباً من يديه ورجليه، وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى. ثم أمر به فأنزل. ثم أمر بقدر فأحميت. وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر، فإذا هو عظام تلوح، وعرض عليه فأبى. فأمر به أن يلقى فيها. فرفع بالبكرة ليلقى فيها فبكى. فطمع فيه ودعاه، فقال: إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة، تلقى في هذا القدر الساعة. فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي، نفس تعذب هذا العذاب في الله.
وفي بعض الروايات: أنه سجنه ومنعه الطعام والشراب أياماً. ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير فلم يقربه. ثم استدعاه فقال: ما منعك أن تأكل؟ فقال: أما هو فقد حلَّ لي. ولكن لم أكن لأُشَمِّتَكَ فِيَّ. فقال له الملك: فقبِّل رأسي وأنا أطلقك وأطلق جميع أسارى المسلمين. قال: فقبَّل رأسه. وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده. فلما رجع قال عُمَر بن الخطاب: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ فقام فقبل رأسه. وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (110):

القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [110].
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} بيان للذين كانوا مستضعفين بمكة، مهانين في قومهم، وافقوهم على الفتنة ظاهراً، ثم أمكنهم الخلاص بالهجرة، فتركوا بلادهم وأهاليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه، وجاهدوا الكافرين وصبروا على مشاقِّ الجهاد. أخبر تعالى أن هؤلاء من بعد الفتنة المذكورة، أي: إجابتهم إليها: {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} فيغفر لهم ما فرط منهم ويرحمهم بالجزاء الحسن.
والجار في قوله: {لِلَّذِينَ} متعلق بالخبر على نية التقديم والتأخير، والخبر لـ: {إن} الأولى. والثانية مكررة للتأكيد. أو للثانية وخير الأولى مقدر، وشمل قوله: {هَاجَرُوا} من هاجر إلى الحبشة من مكة فراراً بدينه من الفتنة، ومن هاجر بعد إلى المدينة كذلك. كما شمل قوله: {جَاهَدُوا} في بث الحق ونشر كلمة الإيمان والدفاع عنه. أو قاتلوا في سبيل الله، ولأجل هذا الاحتمال في الفعلين قيل: الآية مدنية، وقوله تعالى: